قصص

قصة الفتاة و الشخابيط

“القصة مستوحاة من أحداث حقيقية”
كانت ناقصاه ده كمان!
فاكرنا جورنال بحق وحقيق إياك! موضوع إيه وقصور أثرية إيه، بقى يبعتني أنا اتمرمط واعمل جولة في قصر من قصور وسط البلد، وعشان مين؟ ال10 اللي بيقروا العدد، ده إيه الشغلانة الهباب دي؟ وأنا إيه اللي رماني عليها، اه صحيح، عشان مش فالح في أي حاجة تانية، مبعرفش أعمل حاجة غير الكتابة وبس، رغي رغي رغي على الورق، مع إني بكره الرغي في الحقيقة وبكره الوضع الجديد اللي بقيت فيه، وأنا اللي كنت بلعن حياتي السابقة!
قال إييه، جار طالع جار نازل يخبط عليا ويرمي السلام واللي عايز يأنسني ويتضايف واللي يعزمني في بيته على غدا ولا عشا ولا فطار في رمضان، فاكريني سفير موزامبيق يا خي! كل ده عشان أنقذتهم من لعنة العمارة القديمة اللي كلنا كنا عايشين فيها، عمارة الجن الإسود، لا وكمان بقى ليا أنتيم، أنتييييم، غصب عني ومش بمزاجي أتفرض عليا زي كل الأوضاع الجديدة، “سعد”، اللي قرب مني في أحداث العمارة القديمة، وبصراحة هو ساعدني وكان جدع معايا، وبما إنه كان رئيس مجلس الإدارة، فبرضه في العمارة دي السكان اختاروه رئيس مجلس الإدارة وقال إيه، يخليني عضو في مجلس الإدارة، ااااه يا مرارة اللي جابوني!
تخيلوا معاناة الشخص اللاجتماعي لما يبقى متحاوط بالناس وحب المجتمع، حبهم عفريت البُعدا !
المهم نرجع لمرجوعنا، مديري العزيز، العزيز أوي، قرر في يوم من الأيام يبقى مبدع، ويبعتني أنا “محسن العلايلي” دونًا عن باقي الصحفيين اللي بيشتغلوا عنده في الطاحونة اللي مش جايبه همها أروح “قصر شامبليون” في شارع شامبليون في وسط البلد والف فيه كويس وأكتب عنه، أنا عارف، أنا عارف إن الكتاب اللي نشرته هيبقى لعنة عليا، اه ما أنا كتبت عن أحداث عمارة الجن الإسود، الكتاب اتنشر وللأسف حقق نجاح معقول، وده خلى المدير يركز معايا بعد ما شاف النجاح وعرف إن عندي موهبة، مش مجرد صحفي وخلاص، عندي أسلوب روائي، وأنا اللي كنت فاكر إني بَنَفس بس عن نفسي من خلال كتابة الأحداث الغريبة اللي مريت بيها بدل ما اتنيل أدفع عشروميت ألف جنيه في جلسات علاج نفسي وأروح وأجي على راجل ولا ست غريبة، وامدد على الشيزلونج وأرغي ومش بعيد اتشتحف وأخلي الدكتور بسلامته يتصاحب ويطبطب عليا، ناقصة هي، قوم إيه؟ المدير يخليني أكتب أكتر في الجورنال، ويديلي مهمات وهوم وورك، قال بعد ما شاب ودوه الكتاب!
وأنا هيتنكد عليا وحدي؟ على جثتي!
كان لازم حد يشاركني رحلة الشقاء دي ومفيش غيره، الصديق اللي اتفرض عليا، “سعد”…
-بجد؟ حلو أوي، موافق طبعًا، أهو تغيير للروتين، دانا مش عارف أسافر حتى العجمي، عندي شقة في الكيلو 21 معتبتهاش من 5 سنين تصدق، تلاقيها غرقت ولا اتسرقت ولا اتباعت وأنا معرفش..
=ده إيه التحمس الأوفر ده، هو أنا بقولك هوديك مهرجان الجونة، وبعدين أنت هتحكيلي قصة حياتك؟ أنا مالي ومال شقتك وسفرياتك، ما تقولي أحسن طقم الصيني عندكم كام قطعة…
-12
غريب الحب مين فاهمه، يعني “سعد” ده البني آدم الوحيد اللي سمحتله يقربلي، وبتحمله عن باقي البشر وفي نفس الوقت ببقى عايز أرميه بأي حاجة تيجي في سكتي بمجرد ما يفتح بوقه بس…
اتفقنا على اليوم والساعة اللي هنتحرك فيها للقصر بعربية “سعد”، وكالعادة المواعيد زفت، 3 بقت 4 ، كنت بكلمه كل 5 دقايق بس كان بيكنسل عليا البعيد، لما جالي اتحجج بالطريق والزحمة والكلام الفاضي ده، مردتش عليه واكتفيت بإني رميته بنظرات نارية فيا كل السب اللي في الدنيا، ونزلنا من شقتي من سكات…
القصر مش معمول ليه صيانة، مهجور ومفيهوش أي أضواء شغالة، يعني كان قدامنا 3 ساعات بس قبل الدنيا ما تضلم، وعبال ما نوصل كنا هناخد حوالي من ساعة إلا ربع لساعة، يعني فعليًا هيبقى معانا ساعتين بس، وشكلنا كنا هنضطر نيجي مرة تانية عشان مش هلحق أخد لفة كويسة في المكان….
قربنا من القصر، إيه كم ورش تصليح العربيات دي؟ إحنا داخلين مسابقة عربيات سريعة ولا إيه؟ وكل شوية حد يترازل علينا ويعرض يصلح عفشة العربية، يا سيدي عفشة العربية كويسة إحنا اللي خربانين…
ناقصة هي عطلة!
وأخيرًا وصلنا…
ده إيه ده ،شكله هيتهد على نفوخنا!
مفيش شك إني انبهرت بتصميمه لكن القصر شبه متهالك، الأعمدة والشبابيك والأسوار القصيرة متاكلة، اتمنيت منضطرش نقعد كتير جوه…
“سعد” لقى ركنة بسهولة قدام القصر مباشرة، خلاص كان بيرجع بالعربية لورا وبيظبط الاتجاهات لما خبطنا في حاجة…
احنا الاتنين شهقنا، الخبطة كانت قوية…
=إيه ده يا “سعد” مش تفتح يا أخي!
هو كان بينهج وسأل:
-إحنا خبطنا في إيه؟
بص للشاشة قدامه، الشاشة اللي بتبين المشهد ورا العربية عشان يركن بشكل سليم، عنيه وسعت على الآخر، كان باين عليه مذعور…
=في إيه، مالك؟
-خبطت عيل صغير.
=يا خبر إسود، هي فيها عطلة تاني؟
مردش عليا، اتلفت براسه وبص ورا…حواجبه اتعقدت وقال:
-الله..
=الله إيه؟
-مش موجود.
رجع بص في الشاشة قدامه، فضل مبرق فيها، وقال:
-أهو.
وبعدين بص براسه ورا وملقهوش…
أنا في كل المراحل دي لا بصيت في الشاشة ولا لفيت براسي ، أنا مالي أنا ومال الهم ده، في إيه ولا في إيه أنا؟…
-مفيش ولد، بس ده كان باين في الشاشة، والخبطة قوية…
=يا عم تلاقيك خبطت في طوبة ولا مطب ولا رصيف واطي، واد إيه اللي هيبقى في الشاشة بس مش موجود في الحقيقة؟! تلاقيك مشربتش ال5 فناجين قهوة بتوع النهارده..
-يمكن أكون مرهق، أنا فعلًا يومي النهارده في الشغل كان تقيل و…
=أنت هتحكيلي سيرتك الذاتية؟ أنا مال أمي ومال شغلك، ورانا هم متلتل، يالا انزل بقى، اتلحلح شوية…
ونزلنا من العربية، واتوجهنا للقصر…
طلعنا شوية سلالم وظهرت بعدهم 3 أبواب، كنت بتحرك بسرعة وورايا “سعد”، وفي نفس الوقت كان مطلوب مني أركز في التفاصيل على قد ما أقدر، كله عشان خاطر عيون المدير عشان أطلع بالمقال المعجزة اللي هيحقق فلتة ويخلي القراء بدل ما هم 10 يبقوا 11 مثلًا…
دخلنا من الباب الوسطاني…
خرجت من شنطتي الكشكول والقلم، كتبت وأنا مركز في البهو الكبير اللي كنا فيه:
“ساحة كبيرة بتنتهي بسلالم فرعية على اليمين والشمال، السلالم شبه جناحات الفراشة، بتلتقي في النص وبعدين تفترق تاني لحد الدور التاني وبتقسمه لجهتين”
-يا حلوة يا بطة…
=أما إنك مهزأ صحيح.
كنت فاكر “سعد” بيتريق عليا عشان يعني كنت بفكر بصوت عالي وأنا بكتب…
-لأ أنا مش قصدي عليك، قصدي على القطة..
=قطة؟
-القطة اللي لسه معدية، كيوت أوي.
=أنت اللي لمؤاخذة كيوت…بقولك إيه أنا مش جايبك عشان تشتتني ياريت نلتزم الصمت.
اتحركت وحدة وحدة وكل شوية أقف واكتب ملاحظات، بصراحة المكان كان مبهر، القصر من بره وجوه تحفة معمارية، تصميم فرعوني ويوناني وروماني ممزوجين ببعض، ده بالنسبة للقصر من بره، وجوه كمان البهو كان رهيب بغض النظر عن التراب والخراب اللي حل عليه، لو نفضنا التراب والألوان الطبيعية رجعت من تاني هنلاقي جمال صعب حتى يتقارن بأحلى اللوحات…
في حاجة فصلتني عن الكتابة والتركيز، شوشت أفكاري…
كنت شايفها برغم إني كنت باصص في الكشكول، فوق هناك….
بالونة!
بالونة لونها أحمر فاقع في الدور التاني قريبة من السلالم، رفعت راسي فوق، سرحت فيها لحظات…
-ما تحكيلنا يا عم طه حسين تاريخ القصر ده…
فقت على صوت “سعد” المزعج اللي شبه النهيق…
=القصر ده ملوش علاقة بشامبليون، اتسمى كده عشان في شارع شامبليون، ده اصلًا بتاع…
-سعيد باشا حليم، حفيد محمد علي، الحفيد المباشر….
مش “سعد” اللي قاطعني، دي بنت تانية….
شابة في العشرينات، جميلة، عنيها واسعة ومعبرة، بشرتها خمرية، وشها بريء، ملامحها مريحة، شيك أوي، لابسة ألوان متناسقة ونبرتها واثقة وصوتها جميل، بس ده ميمنعش إنها كانت مزعجة جدًا بالنسبة لي، إزاي تقاطعني وتتجرأ ليه وتدخل في الحوار؟ ده إيه الأتامة دي؟؟
بصتلها بقرف و”سعد” بصلها باستغراب، احنا الاتنين اتفاجئنا بوجود زوار تانيين غيرنا للقصر…
تجاهلتها وكملت وأنا بوجه كلامي ل”سعد”…
=المهندس كان إيطالي وتصاميمه كانت متأثرة بحضارة مصر القديمة والحضارة اليونانية والرومانية، هتشوف ده بالذات في التصميم الخارجي، الأعمدة والوشوش المنحوتة بره…
-ياختي طعمة!
=جرى إيه يا “سعد” متحترم نفسك.
-مش قصدي عليك يا أخي، أنا بكلم القطة، فظيعة بجد، طعمة جدًا…
=فينها دي؟
-أهي عدت بسرعة، مشفتهاش؟
=لأ مشفتهاش، أنا الحق عليا إني عملك اعتبار وبحكيلك القصة.
-بس القصة دي حزينة، عشان مراته مرضتش تسكن القصر، ببساطة رفضت هديته، عملها كل القصر ده عشانها مخصوص ورفضته وراحت عاشت في تركيا ..
دي كانت الشابة تاني، تاني بتحشر نفسها وسطنا، ده إيه الجلد التخين ده…
-أنا “سهر” بالمناسبة…
تشرفنا!
مقلتهاش بصوت عالي، مش في مزاج أضرب صحوبيات انا…
كملت، المصيبة إنها كملت كلام….
-أنا مبسوطة إن في ناس تانية مهتمة بالقصر، ده من التحف المنسية…
لا مهتم ولا نيلة، مهتم إني مخسرش الكام ملطوش اللي مبيكفوش العيش والشاي…
-تعالي تعالي، بسسس.
وااادي “سعد” ندهته النداهة قصدي القطة وبقى مسحول وراها، خليه يتسحل ويحل عن نفوخي، عقبال الأستاذة “سهر” دي اللي طلعتلي في المقدر….الله، البالونة الحمرة! بقت أوضح من قبل كده، كإنها قربت شوية، بقت على طرف السلالم من فوق، البالونة كانت طافية عشان مربوطة بخيط طويل قريب من الأرض…
ما علينا!
-سمعتوا؟!
“سهر” فجأة وقفت وقالت الكلمة دي، حلو، جميل الأداء المسرحي ده، شوقينا أكتر يا ست الهوانم..
=في إيه؟
-الصوت…
=صوت إيه؟
-الحركة و…الضحك..
=لأ تلاقيكي بس أكلتي كفتة على العشا امبارح..
ضحكت ضحكة بسيطة وقالت:
-يمكن فعلًا متهيألي، المكان يغذي الخيالات، خصوصًا اللي خيالهم واسع زيي…
ملامحها البريئة مخدعتنيش، برغم الملامح المريحة دي في عمق رهيب في عنيها، عمق بيقول إنها ذكية جدًا ومش سهلة…طلعت على السلالم، كنت بتحرك أسرع من قبل كده، عايز الحق المتبقي من نور الشمس، سبت “سعد” تحت مع قططه اللي مش باينة دي…
مشيت في الجناح اليمين الأول، تخيلت بحاجة ورايا خلتني أقف، اتلفت و لقيتها…البالونة!
مش فاهم إزاي يعني، إزاي بتتنقل كده من مكانها، مفيش هوا كافي يحركها، وبعدين كإنها…ماشية ورايا، ده غير… معلهاش تراب، بتلمع، شكلها جديد زي ما يكون صاحبها موجود في المكان، هو في رحلة مدرسية كمان في القصر؟ يا دي الخيبة، مش كفاية اللي اسمها “سهر”، في ناس تانيين، أي لحظة كنت متوقع أسمع دوشة عيال بقى وقرف…
عملت جولة سريعة، وبعدين روحت الجناح الشمال، لقيتها هناك…”سهر”، كانت واقفة في أوضة، مبلمة، قالت:
-أستاذ “محسن”، شايف الشخابيط اللي على الحيطان دي؟
رفعت راسي، فعلًا كان في شخابيط كتير، ولما ركزت كمان لقيتها مزعجة، مش بس عشان عاملة دوشة وفوضوية لكن محتواها….
رسومات لأطفال كتير، اللي بوقها مفتوح كإنها بتصرخ، واللي هدومها مقطعة، واللي بتنزف، بعد التركيز أكتر، برغم بساطة الرسم وبدائيته، لكن قدرت أميز إن الرسومات كلها عن طفلة واحدة، نفس نكشة الشعر ولونه والتوكة اللي فيه، نفس حجم العيون، والنظرة اللي فيها، الرسام واحد ورسم طفلة واحدة متكررة… ده غير الكتابات…
الخط وحش أوي بتاع حد يدوبك لسه متعلم الكتابة وبالعافية كنت قادر أقرا…
“امتى هكبر…أنا وحشة؟ استاهل؟ يعني إيه جحيم…هو أنا في الجحيم؟”
كلمات متفرقة هنا وهناك…
-فكرة واحدة جايه في بالي من الكتابة والرسومات، ايه يا ترى اللي كان بتعيشه الطفلة اللي كانت هنا في الأوضة؟
بالظبط! هو ده اللي كنت بفكر فيه بالظبط!
بصتلها، النظرة طولت…ابتسمت بلؤم وفخر في نفس الوقت، كإنها انتصرت عليا، قدرت تشد انتباهي…
لكن في حاجة تاني شدت انتباهي وخلتني الف راسي، البالونة!
البالونة مش بس كانت ورايا، دي كانت…بتتحرك…بتتحرك في اتجاهي…
-مال حضرتك؟
=مممالي؟
-وشك مخطوف، آسفة يعني قصدي باين جدًا إنك مخضوض.
=أنااا كده خلصت، يادوبك أمشي، مش محتاج حاجة تاني.
مشيت بسرعة من الأوضة، أنا فعلًا كنت مخضوض، إيه قصة البالونة المريبة دي ولا أنا بخرف ولا إيه…
=يالااا يا “سعد”..
ندهت بصوت عالي من وأنا فوق ولسه بنزل من على السلالم..
-إيه خلصت؟
=اه، خلاص كده الدنيا هتضلم، نلحق نمشي بقى.
-طب استنى، ناخدها معانا.
=ناخد مين؟
-القطة..
=قطة لما تهبشك، قطة إيه دي اللي ناخدها؟
-أنت مش شايف متعلقة إزاي بيا.
=أنا مشفتهاش أصلًا من ساعة ما جينا.
-إزاي يعني، أهي لازقة في رجلي.
لفيت براسي لفوق، ناحية “سهر” اللي كانت بتتمشى ونازلة في اتجاهي.
فجأة الضوء بقى خافت، الشمس اتكسرت وفيه نسمة هوا باردة عدت، كل ده وأنا براقب “سهر” اللي نازلة على السلالم، معرفش ليه…قلبي اتقبض…
وصلت ل”سعد”، كان بيتصرف بطريقة عجيبة، ايديه الاتنين في وضعية جناحات الفراخ كإنه شايل حاجة، لكنه مكنش شايل حاجة، مش مهم، يمكن عنده تسلخات تحت باطه، نشوف المسألة دي بعدين، المهم نخرج من القصر..
اتوجهنا مع بعض لمكان الأبواب وورانا علطول كانت “سهر”، وصلنا للنهاية، لكن…مكنش في أبواب!
هنا، الأبواب التلاتة كانوا هنا، في المكان ده بالظبط كان الباب اللي دخلنا منه..
-إيه ده يا “محسن”، فين الباب؟
=في جيبي… مخبيه!
-لأ بجد.
=معرفش يا “سعد”.
“سهر” بقت جنبنا، عنيها وسعت، مكنتش بترمش، قالت بنبرة خوف…
-الباب…مش…موجود.
سألت وأنا ببصلها:
=يعني إيه؟
-حاجة من ال3، يأما تهنا ومش هو ده المكان اللي دخلنا منه، برغم إنه شبهه، يأما القصر بيتحرك ودبت فيه الحياة، يأما الأبواب اتقفلت في وشنا…
=إيييه اللي بتقوليه ده؟ هو إيه اللي تهنا ولا البيت بيتحرك ولا الأبواب اختفت.
بصتلي بثبات وقالت بتبرة واثقة:
-حاجة من ال3 يا “محسن”، في كل الأحوال إحنا متحاصرين في القصر ده لأجل غير مسمى!
“سعد” كان مرعوب زينا لكن نزود بقى غرابة أطواره، كان لسه بوضعية الفرخة، وقال وهو بيبص تحت:
-ششششش.
“سهر” سألته:
-هو أنت بتتكلم مع مين؟
-مع القطة اللي في إيدي مش شايفين يعني؟
نظرة غريبة كانت في عنيها…طلعت موبايلها ولعت الفلاش وصورت “سعد”.
قربت مني، رفعت الموبايل وورتني صورة “سعد” اللي كان واقف قدامنا…
في الصورة…كان في قطة في دراعات “سعد”! في الحقيقة مفيش حاجة…
“سهر” قالت بنبرة مهزوزة:
-إسمعني كويس يا “سعد”، متتحركش من مكانك، قول أي دعاء زي “أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق” وبالراحة كده بعدها نزل القطة على الأرض وسيبها تمشي..
-أيوه يعني ليه مش فاهم.
-عشان أنت بس اللي شايف القطة..
البؤبؤ بتاعه زاغ في كل الاتجاهات، صرخ:
-عااااااااااا
ورمى القطة الشبح على الأرض، نبيه الله أكبر عليه، ايديه اتشحورت خرابيش، ده غير إنه أكيد صحى كل الأشباح واللعنات اللي في القصر..
ما خلاص كده مفيش فايدة من الإنكار، أنا….دخلت في لعنة جديدة، لعنة قصر شامبليون…نا عملت إيه في حياتي؟ عملت إيه عشان ماسورة اللعنات دي تتفتح عليا، دي الرسالة اللي ممررتهاش ل100 شخص ولا إيه..
قدرت أميز نظرات “سهر” ليا برغم الضوء الخفيف، كانت نظرات حادة وجد، قالت:
-جه الوقت اللي نتعرف فيه بشكل رسمي على بعض، أنا اسمي “سهر مأمون” بتاعة حكايات كل اللي بقدر أعمله هو إني ألف قصص، وعندي ليك خبر حلو وخبر وحش…
=نبدأ بالوحش.
-القصر قرر يحبسنا .
=والحلو؟
– كل أزمة نقدر نخرج منها بقصة، إحنا محتاجين قصة، قصة محبوكة كويس، فكرة أساسية، بداية ونهاية وحبكة كويسة توصل المشاهد ببعض لحد النهاية…
=قصة إيه اللي ممكن تخرجنا من هنا؟
-المرة دي مش قصة من تأليفنا، دي قصة القصر، مطلوب مننا نعرفها، نسمع للمكان، للأموات، للحيطان المقشرة والتاريخ اللي مش محكي، لازم نعرف القصة اللي بسببها القصر حجب عننا الأبواب، يا “محسن” أنت روائي وأنا بتاعة حكايات واللي هيخرجنا هي الملكة بتاعتنا، الحواديت…
أول ما خلصت كلامها أنوار القصر اشتغلت!
أنوار كتير خافتة كإن مصدرها لمبات صغيرة، المشكلة إن مفيش لمبات ولا كهربا في القصر….
-حلو أوي، هنراهن بحياتنا على حكاوي وحواديت وقعدة مصاطب..
ده كان تعليق “سعد”…المفاجأة إني المرة دي كنت متفق معاها، لازم نكون إيجابيين عشان نعرف نخرج من هنا، لازم نفك الألغاز، نجمع المشاهد لحد ما نعرف القصة كاملة، بالحبكة والتفاصيل، ولازم…نتعاون…
عيني اتحركت من عليها لحاجة تانية… البالونة…
البالونة كانت جنبنا، في الدور الأرضي، مديت إيدي ومسكتها، مسكت الحبل…
=تعرفي إيه تاني عن تاريخ القصر ده يا “سهر”؟
-القصر متسكنش من سعيد حليم ولا حد من أسرته.
=عرفنا ده..وبعدين؟
-فضل مقفول لحد سنة 1934، اتفتح تاني في صورة مدرسة، المدرسة الناصرية…
=مدرسة…
-ايوه..
بالونة، رسومات، كتابة بخط طفولي….الموضوع ليه علاقة بالمدرسة، بطلاب كانوا فيها، هي دي بداية القصة…
=تعرفي إيه عن المدرسة؟
-مش كتير، ومفيش حاجة مؤكدة، كلها حكاوي…
=قوليلي أي حاجة، وكل حاجة سمعتيها…
-تمام… مثلًا إن في جزء من التلاميذ كانوا بيباتوا فيها، زي مدرسة داخلية، وإن موقع القصر زمان أوي كان مقبرة، والقصر اتبنى فوقيها، وال… التلاميذ والمدرسين كانوا بيسمعوا ويشوفوا حاجات غريبة، ظواهر كده مش متفسرة وكمان…من وقت للتاني زوار القصر برضه بيسمعوا دوشة وبيشوفوا أطياف و…
سكتت فجأة، بصت في اتجاه ورجعت بصتلي أنا و”سعد” وقالت:
-سمعتوا؟
“سعد” قال بخوف:
-إييييه؟
-كان في دوشة هنا، كإنهم مجموعة أطفال، كلهم بيتكلموا في نفس واحد.
علقت على كلامها:
=أطفال…زي ما قلت، القصة ليها علاقة بأطفال، بالمدرسة، دي البداية…
-أهم حاجة نفضل مع بعض احنا التلاتة، احنا منعرفش إيه اللي مستخبيلنا في القصر.
هزيت راسي بالموافقة على كلام “سهر”…
اتفقنا نطلع على الأوضة إياها، الأوضة اللي فيها رسومات وكتابات غريبة وحزينة….
طلعنا ومشينا في طرقات ضيقة، موحشة، إحساس خنيق، كإن الحيطان هتطبق على عضامنا وتكسرها…
“يتبع”
الفتاة_والشخابيط
ياسمين_رحمي
“الجزء الثاني والأخير”
“سهر” وقفت جنب شباك مكسر، فضلت مبرقة…كانت شايفة ست واقفة تحت، ماسكة في إيديها سيجارة رفيعة، الست لبسها كان كلاسيكي، لابسة جاكيت رمادي غامق قصير بزراير وجيبه على الركبة نفس الدرجة بالظبط، كانت بتبص فوق، ناحية “سهر”، وشها كان واضح جدًا برغم إن الضلمة بدأت تزحف، عنيها مدورين ومرعبين، عندها حسنة كبيرة قرب شفايفها وحاطة روج نبيتي…
دخان السجاير كان عمال يكتر مع كل نفس بتاخده، لحد ما في سحابة دخان اتكونت حوالين وشها وعلى راسها والدخان انتشر، بقى محاوطها والست اختفت جواه!
الدخان انقشع، مبقاش موجود والست كمان اختفت و”سهر” معاهم…
مبقتش شايفها لكن…سامع صوتها، كانت بتنده، سامعها بوضوح، كإنها واقفة في نفس المكان، جنب الشباك لكن مش عارف أشوفها، وبعدين…فجوة…
لقيت نفسي في أوضة الرسومات، في فجوة ما بين وقوفي في الطرقة مع “سهر” و”سعد” واختفائها وما بين وصولي هنا، إزاي وصلت وحصل إيه في الوقت ده؟ “سهر” فين؟
“امتى هكبر؟…أنا وحشة؟ استاهل؟ يعني إيه جحيم…هو أنا في الجحيم؟”
الأوضة دي مكنتش فصل، اللي يخلي طفلة تاخد راحتها في الرسم والكتابة على الحيطة بالشكل ده، دي…كانت أوضتها، الأوضة اللي كانت مقيمة فيها، قد إيه، الله أعلم…
كون إن الرسومات والشخابيط فضلوا موجودين متمسحوش يبقى حاجة من الاتنين، يأما المدرسين والمشرفين في المدرسة كانوا على قدر كبير من السماحة والاحترافية إنهم يسيبوها تلون وترسم وتكتب زي ما هي عايزه، يأما…الأوضة كانت مهملة، محدش كان بيدخلها، محدش كان مهتم بالبنت ولا برسوماتها ولا أفكارها اللي هي مصدر الرسومات…
-هو إيه ده يا “محسن”؟
“سعد” كان واقف في ركن بعيد في نفس الأوضة، اتبسطت إني شوفته، على الأقل هو متاهش مني زي “سهر”…
روحت ليه، بصيت على الأرض، على الحته اللي كان بيشاور عليها….
كانت رسمة على الأرض، أشبه بطبعة، بجحم بني آدم!
حد كان نايم هنا ومكانه اتطبع شكل جسمه، مكنش فيه ملامح، تجويفات الجسم بس والراس والرجلين…الحجم كان لشخص صغير، لكن مش طفل أوي، يعني حد عنده 12 أو 13 سنة…البنت! صاحبة الأوضة، أكيد، أكيد التلميذة اللي كانت نزيلة هنا، بتلقائية رفعت راسي تاني للحيطة، بصيت كويس على الكتابات، الكتابة والرسومات كانت على مستويات قريبة من بعض، ده معناه إنها اترسمت في فترة معينة مش كبيرة، يمكن سنتين بس، وده الفرق ما بين المستوى الأول والتاني على الحيطة، الفرق بينهم مش كبير، يعني الأحداث كلها حصلت خلال المدة دي، خلينا نقول سنتين، بس في حاجة مش منطقية…الكتابة والرسم كمان بتوع طفل يدوبك لسه بيتعلم جديد، مش متوافقين مع سنها إلا…لو كانت متأخرة…قدراتها العقلية أقل من سنها، معقول؟….
-حسيت بالهزة؟
“سعد” سألني، هزيت راسي بالنفي، محستش بحاجة…
مشي بره الأوضة للطرقة، لف وبصلي بقلق…قال:
-واضح إن في زلزال..
=لأ يا “سعد” مفيش، ارجع هنا…
مسمعش كلامي، فضل واقف في الطرقة، هو بس اللي كان شايف ذرات تراب بتقع عليه، حط إيديه على راسه، السقف كان بيقع والحيطان بتضيق عليه، الحيطان بتقرب، بتقرب، بتضيق من كل ناحية وهو بيتفعص جواها، في الحقيقة هو ده اللي كان بيعيشه لكنه مكنش حقيقي! أنا مكنتش شايف لا غبار ولا تراب ولا حيطة بتتحرك وبتزنقه، بس نش عارف أسيطر عليه ولا أهديه، مكنش شايفني أصلًا، دخل في حالة هستيرية ومش عارف يخرج منها!
في اللحظة دي “سهر” ظهرت…
كانت جايه من بعيد في الطرقة، جريت على “سعد،” مدت إيدها ليه، بس برضه كان بيلوش، مش شايفها، حط إيده على راسه وفضل يصرخ كإن عضمه بيتكسر، بينسحق ما بين الأنقاض… في الآخر انهار، وقع على الأرض وأغمى عليه..
-متقلقش، سيبه هيفوق كمان شوية لوحده…
=روحتي فين؟
-أنتوا فجأة اختفيتوا، كنتوا جنبي وملقتكمش..
=إنتي اللي اختفيتي، كنت سامعك لكن مش شايفك..
-ما علينا…أنا شفت ست، شكلها قديم أوي، كإنها من زمن تاني، كانت واقفة تحت الشباك، وبعدين السيجارة اللي كانت بتشربها، الدخان اللي طالع منها كان رهيب، في الآخر الدخان بقى في كل حته وهي اختفت جواه، مبقتش عارفه أروح فين بعدها، مش لاقياكوا، معنديش فكرة الاتجاه اللي المفروض أخده، بس ظهرلي موظف الأمن..
=موظف الأمن؟
-اه…راجل لابس بدلة فورمال أوي، مهندم كده برغم لهجته البسيطة، وكان لابس طاقية، ضخم أوي وملامحه وأطرافه متضخمة، حالة نادرة، مش بتتكرر كتير، فضل يطمنني وقال لي إني هخرج وإنه حافظ المدرسة ومش هتوه، مش هيسبني أتوه، بس… فضلت ماشية وراه لحد ما جابني هنا، في الطرقة دي اللي آخرها أوضة الرسومات…
=طب هو فين دلوقتي؟
-مش عارفة راح فين..
=مفيش حاجة لفتت انتباهك يا “سهر”؟
-ايه؟
=قال لك حافظ “المدرسة” مش “القصر”، ليه يقول المدرسة؟
اتخشبت في مكانها، حواجبها اتعقدت وقالت:
-مظهره، كان لابس طاقية شبه الطربوش، ولا تلاقيه طربوش، وكمان لبسه، بدلته، أنا فعلًا قابلت موظف أمن، موظف كان بيشتغل في المدرسة زمان، في التلاتينات!
=ووجهك لهنا، للأوضة… كل الأدلة بتشير للأوضة دي…
البالونة الحمرة ظهرت في الأوضة…
“سهر” قالت:
-الدوشة، أصوات الأطفال رجعت…
المرة دي بقى كنت فعلًا سامع، مكنتش لوحدها، كان في دوشة، أطفال بتصرخ وتضحك، بيلعبوا، في أصوات كبار كمان متداخلة معاهم…وكان في ناس بتغني، واضح إنها أغنية عيد ميلاد…البالونة الحمرة مكنتش بس بتتحرك، دي بتتمايل….
قلت:
=دي حفلة عيد ميلاد الطفلة صاحبة الأوضة، اتعملت أول ما جت المدرسة..
“سهر” كانت مركزة في الرسومات وكملت جملتي:
-أيوه، لإنهم أهملوها بعد كده، مع الوقت نسيوها ومهتموش بيها، الرسومات والخواطر بتبين قد إيه بقت وحيدة مع الأيام، الخواطر والرسم ليهم نمط، تقدر تميز الأقدم فالأجدد، كل مدى بتبقى مظلمة أكتر، يعني مثلًا دي…”الإسبوع ده مجوش خدوني، وحشتني ألعابي”.. دي أول خاطرة تكتبها وبعدها….”يعني إيه جحيم؟”….وبعدين…”هو أنا اتنسيت؟”…”تاهت عن العنوان؟”…صيغة أسئلة كل مدى بتبقى كئيبة أكتر وبعدين…”هو أنا في الجحيم؟”…”أكيد عشان غلطت، كنت شقية، كسرت الطبق”…”أنا…في …الجحيم”، شايف الصيغة الأخيرة، مبقتش سؤال، بقى سرد، يقين جوه البنت إنها في الجحيم وإنها كمان مسؤولة، هي السبب في اللي هي فيه…
علقت على كلامها:
=”كان ياما كان كان في بنت من أصحاب الهمم، متأخرة عن سنها، أهلها دخلوها المدرسة كنزيلة مش مجرد تلميذة، في الأول كانوا بياخدوها البيت في العطلة الإسبوعية وبعدين مبقوش ياخدوها والمدرسين كمان أهملوها، مكنوش بيطلوا عليها، بقت سجينة الأوضة، والمتنفس الوحيد ليها كانت خواطرها على الحيطان…
لسه صوت الاحتفال والدوشة كان شغال….لكن في حاجة جديدة حصلت…
هناك في الركن، في كرسيين ظهروا وعليهم اتنين قاعدين، راجل وست…
-شايفهم؟
“سهر” سألتني…جاوبت:
=أيوه.
-مين دول؟…استنى، دي الست نفسها، اللي شفتها بتشرب سيجارة واختفت في الدخان….اللي جنبها مين؟ جوزها؟
هزيت راسي بنفي، كان في شبه كبير بينهم، نفس رفعة الخدود، نفسها العيون المدورة والنظرة الحادة ونفس فتلة الشعر الناعمة واللمعة اللي فيه، دول قرايب…لأ، مش مجرد قرايب، إخوات..الراجل عينه كانت مكسورة، الاحتفال شغال حواليه وهو في دنيا تانية، عينه باهتة من كتر العياط، وشه شاحب، وشايل الهم…
أخته كانت بتبتسم، بتفتح بوقها من وقت للتاني، بتتكلم بصوت عالي، برغم إن المشهد كان صامت لكن ده باين من حركة بوقها وملامحها، باين عليها فرحانة بعيد الميلاد، وإنها بتحب البنت صاحبة عيد الميلاد اللي هي صاحبة الأوضة برضه، لكن في نظرات خاطفة كده مش مريحة ناحية أخوها، نظرات غل ولؤم و…غضب..
“سهر” سألت:
-الطبعة اللي على الأرض بتاعة البنت صح؟
=مظبوط، جسمها فضل ممدد هنا وقت..
-إزاي الطبعة دي حصلت، إزاي لسه موجودة؟
=مفيش غير تفسير واحد، جسمها فضل مدة على نفس الوضع، مش كام ساعة بتوع النوم، أكتر…
-ماتت في المكان ده، وفضلت على وضعها كتير؟
=عشان مهملة، منسية…
سمعت تأوهات، صوت مش غريب عليا، “سعد” كان بيفوق…
=حمد الله عالسلامة يا سبع الرجال..
-ايه اللي حصل؟ أيوه افتكرت، كان في زلزال، الدنيا بتتهد، وكنت حاسس بخنقة…
“سهر” انتبهت ليه، سألته يوصف بالظبط اللي شافه وحس بيه..قال لها على الحيطان اللي فضلت تضيق والخنقة الرهيبة اللي كان حاسس بيها، إنه عمره ما حس بالوحدة دي…
دي كانت مشاعر البنت، بشكل ما سيطرت على “سعد” وتقصمها، الجدران اللي بتضيق والخنقة دي كان إحساسها بالواقع اللي بتعيشه بعد ما دخلت المدرسة وأقامت فيها…
سألت “سهر”:
=تفتكري الست أمها والراجل خالها ولا الراجل هو اللي أبوها والست عمتها؟
-أظن الست هي اللي أمها، نظرات الحب اللي للبنت بتبين ده..
=لأ، خدعتك نظراتها، نظراتها كدابة! الست دي مش سهلة، والراجل برغم الضلمة اللي عليه لكن نظراته البسيطة ناحية البنت نظرات حب وشفقة، هو اللي أبوها والست عمتها، أنا متأكد…
احنا التلاتة سمعنا صوت أزيز قوي، باب بيتفتح…بصينا ناحية المصدر، “سعد” بما إنه كان في الطرقة فهو الأقرب للأوضة اللي بابها اتفتح…اتحرك ناحيتها واحنا وراه…
وصلنا على عتبة الأوضة، العفرة وريحة التراب كانت رهيبة، الأوضة كانت فاضية، أثاثها مكسر وخشبها فيه فجوات، الحيطة لونها أخضر باهت مقشر، بس الأوضة مفضلتش فاضية كتير…
ظهرت ست قاعدة على الأرض، مديانا ضهرها، قامت واتوجهت للقماشة الكبيرة اللي كاسية غرض ما مش باين…
شالت القماشة، اتضح إنها كانت مغطية مراية طويلة…
الست كانت لفة شعرها كحكة بتوكة، لابسة نضارة، شكلها جد جدًا…
مدت إيدها فجأة وشالت التوكة وسيبت شعرها، قلعت النضارة، رفعت إيديها الاتنين بشكل آلي كده على شعرها من فوق وبدأت تسرح بصوابعها، تمررهم في خصلها لحد الأطراف، تخلص وتبدأ تاني…
كل ده كانت باصة في المراية ومركزة ومش واخده بالها مننا…
احنا التلاتة كنا متسمرين في مكاننا كإننا منومين مغناطيسيًا، مش متحكمين، مش عارفين نتحرك…
حركة صوابعها بقت أسرع وأسرع وأسرع، لحد ما بقت تسرح شعرها بسرعة غير منطقية كإنه فيديو شغال بسرعة وبعدها…بدأت تشد في شعرها من الجدور وتخلعه من الفروة!
شعرها فضل يقع وهي ولا كإنها حاسة بأي ألم، إيه يا ولية ده، إيه ده يا ولية؟!
فروتها بقت تنزف وخطوط الدم بتنزل على وشها ورقبتها ولسه مستمرة، وبعدها عينها جت على بقعة معينة في المراية، انعكاسنا، شافتنا!
يا مرارك يا “محسن”!
الولية اللي بتقطع حرفيًا في فروتها لقطتك…
أنا و”سهر” اتحركنا بسرعة و”سعد” من الخضة فضل متجمد في مكانه…
وبدل ما يمشي حرك رجليه في اتجاه الأوضة!
=أنت بتعمل إيه؟ الولية هتاكلك، اتحرك يا “سعد”.
الخطوة اللي أخدها “سعد” دخلته جوه الأوضة، الست لفت وابتدت تمشي في اتجاهه والباب اتقفل….
فضل يصرخ ويستنجد بينا ويخبط على الباب بإيديه الاتنين، أنا و”سهر” قعدنا نرزع ونزق في الباب، زعقت فيه، قلتله يبعد عن الباب، خليت “سهر” تقف على جنب، رجعت لورا كام خطوة وبعدين جريت على الباب بأقصي قوتي، كسرته واتفتح..
الأوضة رجعت فاضية، كان فيه كشكول على الأرض وأقلام…
“سعد” لو كان مات في اللقطة دي كان هيتكتب عن حادثة موته بالبنط العريض في الجرايد “ضحية الغبا المركب، شاب يلقي بنفسه إلى التهلكة، خدته أم الشعور اللي بقت قرعة”
إحنا التلاتة فضلنا نجري بلا هدف، مش عارفين رايحين فين ولا بنجري من مين، ما الست اختفت خلاص، أهي نزعة البقاء اللي بتخلينا نفقد حسنا بالاتجاهات وبكل منطق…
وقفت وأنا بنهج، وطيت وحطيت إيديا الاتنين على ركبي، كنت بحاول أخد نفسي، وقتها محستش بالاتنين، لا “سعد” ولا “سهر” كانوا موجودين، والدنيا بقت برد فجأة…
حاولت أندههم لكن صوتي كان ضعيف…
-أنا هنا…
طب الحمد لله…الخبر الحلو إنه هنا، الخبر الوحش إن ده مش صوت “سعد”!
-متقلقيش أنا هنا، إنتي فين يا حبيبتي؟
مشي في اتجاهي، كل ما يقرب كان الجو بيبرد أكتر، لحد ما مشي من جنبي، مكنش شايفني أصلًا، الراجل كان ضخم بشكل استثنائي، لابس بدلة وطربوش، ومعاه عصاية صغيرة، موظف الأمن! أكيد هو، ده شبه وصف “سهر”، هناك على بعد مسافة، كانت…بنت، هي، مفيش غيرها، البنت صاحبة الرسومات…
-أمينة، إيه اللي خرجك من أوضتك؟
-أنا….اااا، عايزه أروح لبابا.
قعد على ركبة وتناها، مد إيده ومسكها من دراعاتها…
-بابا اللي مدخلك هنا، هو عايزك تفضلي في المدرسة، وهييجي ياخدك أكيد قريب تقضوا الأجازة مع بعض.
-بابا جه مع عمتي أول مرة بس، بعدين عمتي جت خدتني شوية، بابا مكنش في البيت، قالتلي إنه سافر وسبنا ومش هيرجع غير بعد كتير، وبعدين عمتي مبقتش تاخدني، نسيتني هنا، أنا عايزه بابا..
فضل ماسك جامد في كتافها، عينه مش بتنزل من عليها…
مسكينة!
عشان كده كانت حاسه بالخنقة والوحدة وإنها في الجحيم وكمان تستاهله، بقت حاسة إنها ارتكبت حاجة فظيعة تخلي أهلها يبقوا عايزينها بره حياتهم…
“كان ياما كان كان في بنت من ذوي الهمم، متأخرة في الفكر عن اللي في سنها، أمها ماتت، منطقي تكون ماتت، أبوها كان خايف من المسؤولية، على الأقل في المرحلة دي فقرر يوديها مدرسة داخلية بمساعدة عمتها، لأ دي عمتها هي اللي أكيد شجعته، عمتها اللي كانت فرحانة بالاحتفال، مش عشان عيد الميلاد، عشان اتخلصت من البنت، من دوشة ووجع دماغ، وكان في مدرسة غريبة الأطوار، أيوه، الست اللي كانت بتقطع في شعرها، الكشكول اللي مرمي على الأرض، والأقلام وهيئتها بالنضارة والشعر الملموم قبل ما تفكه يوحوا بكده، دي كانت مدرسة وكانت معقدة، كان عندها كبت، عشان لما بتبقى لوحدها، لما بتبص في المراية بتبقى عايزه تخرج من فورمة المدرسة الصارمة، كان نفسها تبقى أنثى وبس، لكن واضح إن الظروف حكمت عليها بغير كده، يا ترى المدرسة دي كانت بتعمل إيه مع “أمينة”؟ وكان في موظف أمن متعاطف معاها..مش مريب شوية موظف الأمن ده؟ صحيح كان متعاطف معاها ولا…كان عنده غرض خبيث؟؟ ومش محتاجة فهلوة، “أمينة” ماتت في الأوضة، جسمها فضل ممدد على الأرض من غير ما يحد يدرى لساعات أو يمكن أكتر، يمكن أيام… ، ولما انتبهوا إنها مش موجودة ودخلوا عليها الأوضة ولقوها ميتة، حتى بعد ما جسمها اتشال رفضت إن أثرها يزول، حبت ذكراها تفضل موجودة”
-لأ…لأ، سيبيها بقولك، متقفليش الباب، لأ!
ده كان صوت “سهر”…
جريت على مصدر الصوت، “سهر” كانت واقفة عند عتبة أوضة “أمينة”، مادة دراعاتها وكإنها ماسكة في حد، بس مكنش في حد…
مسكت فيها وفوقتها…
إيدها وجسمها كله اتيبس، وبصتلي في ذهول، بدأت تجمع وبعدين قالت:
-الست اللي كانت في أوضة المراية…
=المدرسة بتاعتها.
-اه، قفشت “أمينة” ماشية مع موظف الأمن، جرتها من شعرها، دخلتها أوضتها وقفلت الباب بالمفتاح من بره، البنت كانت بتعيط عياط رهيب، مكنتش عايزه تتحبس جوه…
-“محسن”؟
ده كان “سعد” اللي ظهر ورانا، سبت الاتنين وجريت على سلالم القصر، الأبواب كانت لسه مختفية…
لسه في حته ناقصة في القصة، لسه محلناش اللغز كامل…
حكيت ل”سهر” على اللي شفته وأنا وهي حكينا كل اللي جمعناه من القصة مع بعض، طيب إيه اللي ناقص، إيه اللي ناقص؟
“سهر” سرحت وبعدين سألت سؤال أظن كلنا كنا بنهرب منه لحد اللحظة دي..
-تفتكر؟….موتة “أمينة” كانت طبيعية؟
وقتها سمعنا صرخة رهيبة، صرخة طفلة.. ودي الأجابة، لأ، “أمينة”…اتقتلت…
وده بيودينا للسؤال اللي بعده، يا ترى مين؟ المدرسة المعقدة ولا…موظف الأمن المريب…
باب الأوضة اتفتح وخرج منه موظف الأمن، كان وشه مخطوف، عمال يتلفت حواليه، خطوط العرق بتنزل من عليه، هرب بسرعة، محدش لحق يشوفه…
وهناك…في الأوضة كان جسم الملاك، ممدد، كإنها…كإنها نايمة في سلام، من غير ألم، من غير وحشة، من غير خنقة، سلام وبس…
كل واحد فينا احنا التلاتة شاف بعدها مشاهد مختلفة، “سعد” مثلًا شاف العمة وهي بتستلم جثة “أمينة” ونظراتها نارية مليانة عتاب لناظر المدرسة، “سهر” شافت المدرسة بملامحها الجامدة وجثة “سهر” بيشيلوها من الأوضة ولا كإن في حاجة حاصلة، وأنا شفت المدرسين والتلاميذ والعاملين بيبصوا لموظف الأمن باحتقار أو بيتعاملوا معاه بحذر، كلهم كانوا متأكدين إنه هو اللي عملها وإنه كمان…اعتدى على البنت قبل ما يموتها لكن مكنش في دليل يدينه، فجأة القصر بقى زحمة بالناس والذكريات…هو ده الجزء اللي ناقص؟ الجاني اللي موت “أمينة”؟
نزلنا للبهو تحت، الأبواب كانت موجودة! ظهرت، خلاص كده حلينا اللغز…
بصينا لبعض وابتسمنا… قربنا للباب الرئيسي، مديت إيدي عشان أفتحه، ساعتها رجع تاني اختفى! ومعاه الأبواب التانية كمان…
في حاجة غلط…
حطيت إيدي على راسي، مش هنخرج من هنا، بقى عندي يقين بده، خلاص كده هنفضل مساجين في القصر، مفيش فايدة، “أمينة” عايزانا نفضل في القصر سواء حلينا اللغز ولا محلينهوش…
-إستنى كده، إستنى!
بصيت ل”سهر” بيأس وهي بتقول جملتها…كملت:
-فين أبو “أمينة”؟ راح فين؟ ليه مستلمش جثتها، ليه مجاش؟ حتى لو كان مسافر أكيد كان هييجي من السفر عشان بنته، مش هيدفنها يعني؟ احنا فاهمين غلط، القصة مش عند موظف الأمن، الجاني هو…عمتها، الأب مسافرش، الأب اتقتل، أخته قتلته، جايز عشان طمعانة في فلوسه، وميبقاش فيه غير العيلة الصغيرة اللي إمكانياتها العقلية محدودة، واللي كانت مستنية مثلًا تموت لوحدها في المدرسة أو تبقى تحجر عليها، لكن غيرت رأيها وقررت تسرع العملية، بطريقة ما دخلت المدرسة واتسللت لأوضتها، أو محتاجتش لده، جت في زيارة وبما إن البنت كانت مهملة فمحدش كلف خاطره يطمن عليها لا بعد ما العمة مشيت علطول، ولا بعد كده كمان..
=ضربتها بحاجة على راسها، كان في كدمة على دماغها وهي ممددة، الجثة اللي شفناها…موظف الأمن بريء ، تلاقيه بما إنه الوحيد اللي بجد كان مهتم بيها فهو برضه الوحيد اللي لاحظ اختفائها بعد كام يوم، راح على أوضتها وشاف المنظر، كان مفزوع وطلع وهو بيتلفت عشان لو حد شافه هيقتنع إنه هو المسؤول عن موتها، وللأسف من غير ما حد يشوفه، كل اللي في المدرسة كانوا مقتنعين بده، فضل متهم من غير دليل لحد آخر عمره وده عشان هو مميز، عنده تضخم في الأطراف والجسم والملامح، مظهره كان بيخض الناس منه ومع الوقت بقى انطوائي وتصرفاته تبان مريبة، لكنه بجد كان راجل طيب وكان متعاطف مع أمينة…
الأبواب ظهرت، ومن بعيد ظهر هو….
موظف الأمن أو طيفه، مكنش جسم، كان شبه الهولوجرام، طيف شفاف بيبتسم…مش “أمينة”، اللي حبستنا في القصر، مش “أمينة” ده هو! موظف الأمن، هو اللي كان عايزنا نحل اللغز، نجمع خيوط القصة عشان في الآخر نثبت برائته! وأكيد كنا هنحكي ونكتب قصته لما نخرج، هو ده موضوع المقال اللي قررت اكتب عنه…
مديت إيدي والباب المرة دي اتفتح…
ضوء الشمس كان خافت، بعييد، الفجر كان بيشقشق…
“سهر” بصتلي ووشها منور ومبتسم وقالت:
-إحساسي إن دي مش أول تجربة ليك، مع يعني الظواهر الخارقة..
=مش أول مرة، يعني، بمساعدة كبيرة طبعًا خلصت عمارة أو بمعنى أصح سكانها من لعنة..
-سبحان الله، أنت خلصت ناس من لعنة وأنا استدعيت لعنة وسلطتها على حد..
=لعنة إيه؟
-لعنة “مهران”، سمعت عنه..
=الساحر الشيطان ده، بتاع حورس؟
-أيوه.
=يا ساتر، أنا سمعت إن بس أي حد بيغوص في سيرته بيتلعن، أنتي عملتي كده في بني آدم؟
-متحكمش عليا يا “محسن”، أنا مش شيطان ومش ملاك برضه، أنا اتاخد مني أغلى ما أملك، أبويا مات من الحسرة ومقدرش أنقذه، كنت عاجزة وكان لازم على الأقل أجيب حقه من اللي أذوه.
=وأنتي إزاي مصابتكيش اللعنة بتاعة “مهران”؟
-غريبة مش كده؟ متهيألي إن فيا مخزون كبير من البؤس خلى اللعنة متصبنيش، مكنتش هتأثر، يعني زي أكتر من فيروس مينفعوش يعيشوا مع بعض في نفس البيئة..
=خزان أحزان يعني.
-ممكن.
=عندي ليكي سؤال أخير.
-اتفضل.
=تعرفيني منين يا “سهر”؟
شفايفها انبسطت وابتسامتها وسعت، عنيها لمعت، بقت شبه عيون الديب..
=أنا معرفتكيش على نفسي في القصر ومع ذلك ندهتيني بإسمي، “سعد” عرفتي إسمه عشان سمعتيني بنادي عليه، لكن أنا “سعد” منطقش اسمي قدامك…
-يمكن استدعاء مديرك والمهمة اللي أسندها ليك بتاعة زيارة قصر شامبليون مكنتش من بنات أفكاره ولا عشان ينزل مقال مختلف وجديد وياكل الجو، يمكن كان في عنصر اتدخل وحرك المسارات في الاتجاه اللي عايزه، مثلًا مكالمة جت للمدير من واحدة مرضتش تعرف عن نفسها لكن وعدته إنها هتمول الجرنال بمبلغ محترم لو كلفك بمهمة شامبليون، وعشان تثبت كلامها حولتله جزء من المبلغ….في يوم 3 سبتمبر 2023، قررت إني اتحبس في قصر شامبليون…
مقدرتش اتحكم في نفسي، ابتسمت، كنت عايز امسك في زمارة رقبتها وفي نفس الوقت كنت مبسوط! مزاجي عالي ومستمتع…هي كملت وقالت:
-كان ياما كان كان في بنت حاسه بملل قرت كتاب عن لعنة زالت بسبب ذكاء وحنكة صحفي مغمور، الكتاب إسمه “عمارة الجن الإسود”، وعرفت بلعنة في قصر مسكون، قصر في وسط البلد، وبدل ما تروح تحل اللغز وتفك اللعنة لوحدها قررت إنها تنول الشرف وتخوض المغامرة مع صاحب لعنة الجن الإسود..
طلعت مني ضحكة تلقائية غصب عني…
=طب يا ست “سهر” مش صدفة سعيدة، ولا هي صدفة ولا هي سعيدة، وأنا مش ناقص معارف أنا فيا اللي مكفيني، أنا عمارة بحالها اتصاحبت عليا وأنا أصلًا بتخانق مع دبان وشي ومش طايق نفسي، ممكن تعتقيني وتنسي إنك عرفتيني، ابوس دماغك…
فضلت بصالي بلؤم وحركت راسها بايماءة خفيفة، اللي هو حاضر…
اديتها ضهري واتوجهت ل”سعد” اللي كان واقف مربع إيده جنب العربية وفاتحها وكل شوية يضربلي زمارة، مش فاهم، زفة ابن عمه في البلد دي ولا إيه…
المصيبة، الكارثة، النايبة..إني بدأ يعجبني الموضوع، موضوع اللعنات والألغاز اللي بتتحل وكمان…الصحبة، الناس اللي بيساعدوني في فك اللعنات، تضربوا مفك في ضلوعكم يا بُعدا…اللعنة الحقيقية صابتني، لعنة حب اللعنات والاستمتاع على طفيف يعني بوجود بشر حواليا، بشر من نوعية “سعد” و”سهر”….
“تمت”
#الفتاة_والشخابيط
#ياسمين_رحمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى